مختار ابن أم سالم كان يلقب كل واحد منا لقب يستمر معه حتى مماته و قد
يورث .. و كان عندما يتحدث تجد من يكتب خلفه كأنه كاتب عدل .. كنا نخاف منه أكثر
من آبائنا .. فهو سيمنحك اللقب الذي سينادون به عليك و ينسون اسمك الحقيقي حتى
والدك نفسه لن يستطع التدخل ...
اختار لفاروق ( عكاشة ) فكان نظره ضعيف جداً غير أنه عندما يصوب على
شيء يصيبه بحرفيه ... و كان من نصيب صاحب
البقالة التي تبيع الجبن ( عسلوكة ) فكان يبيع العسل أيضـــاً و لست أعلم كيف أن
هذا اللقب يعني أيضاً أنه ( نصاب ) و قد دفع هذا الرجل مبالغ و هدايا دون جدوى ...
علماً بان هذا هو اللقب النظيف له يوجد أيضاً لقب لا يمكن أن أذكره هنا ... و لأن
معظم أصدقائي في الحارة لم يزالوا على قيد الحياة ... لن أخبركم بألقابهم فهي
ألقاب يعاقب عليها القانون و طبعاً لم ينسى أن يلقبني و كذلك أخي لقبين و هذا يعني
أننا دخلنا التاريخ و طبعاً لن أذكرهما فلست غبياً الى هذا الحد لأنني سأحيي
الماضي بكل مآسيه ...
كانت الحارة شعبية و كنا لا نحب غيرها ... نعود من المدرسة فنجد
أمهاتنا يفحصن الأرز من الشوائب و نشم رائحة الطعام من أول الحارة ... يطبخن سوياً
و نأكل سوياً و تربينا سوياً ... نحن الوحيدون الذين امتلكوا جهاز تلفزيون ملون و
كنا نستأجر الأفلام الهندية التي كان يشاهدها نصف مليون مواطن في حارتنا ... كنا
أشهر من المحافظ و نحن الوحيدون الذين بنوا بيتاً منفصلاً و صرنا من أصحاب الأملاك
و هاجرنا من الحارة ثم هاجرنا من مصر كلها الى بلد عربي قريب نحن فيه الآن منذ
أكثر من ثلاثين عاماً حتى أننا لم نعد نفرق بين بيوتنا هنا و هناك ... لكني أقسم
أن حارتنا لن أنساها و أهلها و ذكرياتها و هي أحب عندي من القصور التي رأيتها و
التي لا تحمل معنى ...
و يبدو أن هذا هو سبب تهديدي بالانتحار في حالة حصول والدي على جنسية
غير المصرية ... و أتلقى حتى الآن الاهانات من أهلي...
كنا نلعب اللعب الشعبية و نقامر بصور الممثلين و الممثلات .. وأسعدنا
هو من قام بجمع ألف صورة ... و أكثرنا حظاً من قام بجمع صور ( فاتن حمامة ) أو (
عادل إمام ) و من قام بجمع ألف كرة زجاجية بحجم عقلة الأصبع ..
و كنا أكثر تحضراً فقد اهدانا والدنا دراجة هوائية اشتراها من البلد
العربي التي يعيش فيها قبل أن نرافقه هناك و كان لها اطارا غليظاً ... و بسببها
كنا كنجوم بوليود . كم كنا محسودين لذلك ..
كانت أستاذتي في المدرسة تلقبني بـ ( محمد صبحي ) فكنت أضحكها كثيراً
كنا نتنافس في الفصل حتى وصلت الى درجة الرائد و تغلبت عليهم جميعاً بسبب اهتمام
الأستاذة بي و عندما قابلتها بعد عشرة أعوام أو أكثر أخبرتني أنني الوحيد الذي
التحقت بالجامعة و مازحتني قائلة : كيف لك أن تلتحق بجامعة أعلى مرتبة من جامعة
أستاذتك .. فلولا حصولنا على الثانوية العامة من خارج مصر كنا الآن من أصحاب
الدبلومات و الشهادات المتوسطة ...
ثلاثون عاماً و أنا مغترب لست أعلم ما الذي يحدث في مصر ... يلقبونني
بالعربي و أنا شعبي حتى أصابع القدم ... لقد تربيت في هذه البيوت في مناطق لا يزال
يطلقون عليها شعبية ... تعلمت منهم كل شيء ... حتى الحوارات ... تربيت مع هؤلاء
... تربطني بهم علاقات تشبه علاقات الدم و أحمل لهم جميعاً مشاعر تشبه مشاعري لأخي
الأكبر ... يلقبونني بالضيف و أنا أكثرهم قرباً من حبيبتي مصر .. مصر التي لا تقدر
بثمن ... التي لم يعطها أحداً حقها و هي سيدة العالم ...